وصف الله أمتنا بأنها أمة وسط فقال سبحانه :{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}[البقرة:143].
عن أنس بن مالك -- قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي –- يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنَّهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي -- وقد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؟!
فقال أحدهم: أمَّا أنا فأصلّي الليل أبدًا!!، وقال آخر: وأنا أصوم الدّهر ولا أفطر!!، وقال آخر: وأنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدًا!!
فجاء رسول الله –- فقال: إنّي لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النساء، فمن رغي عن سُنَّتي فليس منِّي)[البخاري (6/116)].
وسأذكر ملامح الوسطيَّة واحدة واحدة، مع بيان موضعها من الحديث:
أولا: الخيريَّة:
وهذا يتَّضح من قوله --: (إنّي لأخشاكم لله، وأتقاكم له) ثمَّ يبينّ أنَّه يأخذ بالوسطيَّة: فيصوم ويفطر، ويصلّي وينام، ويتزوّج النّساء، فلولا أن هذا العمل لا يعارض الخشية والتّقوى، بل يطّرد معهما لم يذكرها في هذا المقام، واستخدم هذا أفعل التفضيل (أخشاكم - أتقاكم) وهي أعلى درجات الخيريَّة.
فاتَّضح أن هذه الوسطيَّة التي يرشدنا إليها رسول الله -- تمثّل الخشية والتّقوى، وهذه هي الخيريَّة في أفضل صورها.
ثانيًا: الاستقامة:
وتبرز هذه الحقيقة في قوله --: (فمن رغب عن سنَّتي فليس منِّي) إذن فالاستقامة هي بأن يصوم ويفطر، وينام ويرقد، ويتزوّج النّساء، والخروج عنها انحراف عن الاستقامة، فهذا العمل الذي يمثّل الوسطيَّة، لا نقول إنَّه لا يُعارض الاستقامة؛ بل هو الاستقامة بعينها، حيث جعله الرسول -- من سنَّته، وهل الاستقامة إلا الالتزام بسنَّته والأخذ بها؟!
ثالثًا: اليسر ورفع الحرج:
وهذا أمر جلّي وبيِّن، فنحن بين عملين وردا في هذا الحديث: تبتّل وامتناع عن النّساء والزّواج مع ما في ذلك من مشقَّة وحرج. ويقابله تزوّج النّساء ، والمودّة والرّحمة، وإنجاب الأولاد. الأول يمثل الانحراف عن سنة النبي -- مع ما فيه من مشقّة وعسر، والثاني يمثّل الوسطيَّة مع ما فيه من تخفيف وتيسير ورحمة، ودفع للحرج.
وقل مثل ذلك في الصّيام، والقيام.
إذن فالوسطيَّة في اليسر ورفع الحرج، وليس في التّكلّف والمشقَّة والعَنَت.
رابعًا: البينيَّة:
والأمثلة تبرهن على ذلك:
امتناع عن الزّواج مطلقًا - إفراط.
ويقابله التَّفريط وهو اتّباع الشّهوات دون وازع أو قيد.
وبينهما: الزّواج وهذا هو الوسط، وهو المشروع.
صيام دائم - إفراط.
الإفطار دائمًا - تفريط.
الصيام أحيانًا -والفطر أحيانًا- وسط بين الأمرين - وهو المشروع في ضوابطه الشرعيَّة.
القيام مطلقًا - إفراط.
النوم مطلقًا - تفريط.
القيام والنوم حسب الطّاقة ودون تكلّف –وسط- وهذا هو المشروع.
خامسًا: العدل والحكمة:
وتبرز صفة العدل بالنّظر إلى مطالب النّفس وواجبات العبادة، فقد جعل لكلِّ منها نصيبًا، فعدل بين حقّ الرّبّ وحقّ النّفس، ولم يكن في ذلك حيف أو شطط، وحاشاه من ذلك.
أمّا الحكمة: فإنَّه بالنّظر إلى قدرة النَّفس ومدى تحمّلها، وغفلة هؤلاء القوم عن قدرتهم في فورة الحماس والاندفاع، فجاء الرسول -- يضع الأمور مواضعها، ويجعلها في مسارها الطّبيعي، فإنَّ أحبّ العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه.[البخاري (1/16)].
ولو التزم هؤلاء الرّجال بما قالوا لتعِبُوا عاجلا أو آجلا. ثمَّ إنَّ هذا الفعل نفسه مخالفة لصريح الحكمة وحقيقتها، وذلك أن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، والإصابة في القول والعمل، وهذا هو عين ما وجَّه إليه --.
ومن خلال هذا التّطبيق العمليّ لملامح الوسطيَّة في ضوء هذا الحديث، يتَّضح المراد، ممَّا يساعد على فهم الوسطيَّة، واستنباطها.
~
كتاب الوسطية في ضوء القرآن - للأستاذ الدكتور: ناصر العمر