التعليم مهمة من مهمات الأنبياء وأتباعهم، وهي مهمة شريفة عليَّة الرتبة ،
بها يرتفع شأن صاحبها ، ويعظم أجره ، ويعم خيره .. قال الله تعالى : { هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ
كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ }(الجمعة:2) . وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً ، ولكن بعثني معلماً ميسراً ) رواه مسلم .
وسيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مليئة بالمواقف المضيئة ، التي
ترشد إلى هديه في تعليمه ، وتعامله مع الجاهل برفق وحكمة وستر ونصح ..
عن أنس - رضي الله عنه ـ قال : ( بينما
نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي فقام
يبول في المسجد ، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مَهْ (ما هذا) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تُزْرِموه (تقطعوا بوله) دعوه
، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه فقال له :
إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر ، إنما هي لذكر الله
عز وجل والصلاة وقراءة القرآن ، فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه (فصبه) عليه ) رواه البخاري .
وعن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ: ( أن
أعرابيا دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس فصلى ركعتين ،
ثم قال : اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا ، فقال النبي - صلى الله
عليه وسلم - : لقد تحجَّرت (ضيقت) واسعا ،
ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد ، فأسرع الناس إليه ، فنهاهم النبي -
صلى الله عليه وسلم – وقال : إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ، صبوا
عليه سَجْلا من ماء ) رواه أبو داود .
قال ابن حجر : " .. وفيه الرفق بالجاهل ، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادا .." ..
وقال النووي : " .. وفيه الرّفق بالجاهل ،
وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيفٍ ولا إيذاء ، إذا لم يأتِ بالمخالفة
استخفافاً أو عناداً ، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما .. " .
وما اقترفه الأعرابي منكر لا شك فيه ، من وجوه كثيرة ، أعلاها حرمة مسجد
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحضرته ذلك ، وما فعله لا يحتاج العلم بأنه
منكر ، فالفطرة تأباه ، وبرغم ذلك ما أنَّبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،
وما عنفه ، وما غضب ، بل كان رفيقا رحيما به .
وقد علَّم الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه ـ والأمة من بعدهم ـ الرفق
بالجاهل ، وهداها بفعله ، و بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : ( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه (عابه) ) رواه مسلم) .
وعن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال: ( بينا
أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم ، فقلت
: يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثُكْلَ أُمِّياه (وافَقْد أمي لي) ،
ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! ، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما
رأيتهم يصمتونني لكني سكت ، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما
كهرني (ما نهرني ولا عبس في وجهي) ، ولا
ضربني ، ولا شتمني ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن هذه الصلاة لا يصلح
فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ) رواه مسلم .
قال النووي : " فيه بيان ما كان عليه رسول
الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ من عظيم الخُلق الذي شهد الله تعالى له به ،
ورفقه بالجاهل ، ورأفته بأمته وشفقته عليهم .. وفيه التخلق بخلقه ـ صلى
الله عليه و سلم ـ في الرفق بالجاهل ، وحسن تعليمه واللطف به ، وتقريب
الصواب إلى فهمه .."
وفي هذا إرشاد للمعلمين والمربين والدعاة باللطف بالجاهل قبل التعليم ، فذلك أنفع له من التعنيف ، ثم لا وجه للتعنيف لمن لا يعلم ..
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : ( إن
فتى شابا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله ائذن لي
بالزنا ، فأقبل القوم عليه فزجروه ، قالوا : مه مه ، فقال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - : ادْنُه ، فدنا منه قريبا ، فجلس ، قال : أتحبه لأمك ؟ ،
قال : لا والله ، جعلني الله فداءك ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ولا
الناس يحبونه لأمهاتهم ، قال : أفتحبه لابنتك ؟ ، قال: لا والله يا رسول
الله ، جعلني الله فداءك ، قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم ، قال : أفتحبه
لأختك ؟ ، قال : لا والله ، جعلني الله فداءك ، قال : ولا الناس يحبونه
لأخواتهم ، قال : أفتحبه لعمتك ؟ ، قال : لا والله ، جعلني الله فداءك ،
قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم ، قال : أفتحبه لخالتك ؟ ، قال : لا والله ،
جعلني الله فداءك ، قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم ، ثم وضع يده عليه
وقال : اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه ، فلم يكن بعد ذلك الفتى
يلتفت إلى شيء ) رواه أحمد .
لم ينظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الشاب على أنه معدوم الحياء
فاقدا للأدب ، بل تفهَّم حقيقة ما بداخله ، ولمس جانب الخير فيه ، فتعامل
معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمنطق الحوار العقلي ، الذي يعلم الجاهل ،
ويأخذ بيده ، بحلم ورفق وحكمة ، فأثابه إلى رشده ، وأرجعه إلى طريق العفة
والاستقامة ..
وكان - صلى الله عليه وسلم - يستر على الجاهل ، ولا يذكره باسمه حين يصحح خطأه ليستفيد هو وغيره ..
عن أنس - رضي الله عنه - : ( أن
نفرا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله
عليه وسلم - عن عمله في السر ، فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم
: لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش .. فحمد الله وأثنى عليه
فقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ، لكني أصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ،
وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) رواه مسلم .
وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( صنع
النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا فرخص فيه ، فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك
النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فخطب، فحمد الله ثم قال : ما بال أقوام
يتنزهون عن الشيء أصنعه ، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية ) رواه البخاري .
وكان - صلى الله عليه وسلم – مع رفقه بالجاهل ، يحذره من آثار ونتائج خطئه ..
فعن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - : ( أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين
يقال لها ذات أنواط ، يعلقون عليها أسلحتهم ، فقالوا : يا رسول الله ، اجعل
لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
سبحان الله !، هذا كما قال قوم موسى: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }(الأعراف: من الآية138) ، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم ) رواه الترمذي.
ذات أنواط : هي اسم شجرة ذات تعاليق ، كانت للمشركين يعلقون بها سلاحهم
للتبرك بها .. وهذا يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد رغم إسلامهم ، ولكن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضح لهم ما في طلبهم من معاني الشرك ،
وحذرهم من ذلك ، ولم يعاقبهم أو يعنفهم ، لعلمه بحداثة عهدهم بالإسلام ،
وجهلهم بما يقولون ..
لا شك أن المخطئ والجاهل له حق على مجتمعه ، يتمثل في نصحه وتقويم اعوجاجه
بأفضل الطرق وأقومها ، فلو أن المسلمين ـ وخاصة الدعاة والمعلمين ـ اقتدوا
برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وبذلوا جهدهم في نصح وتعليم المخطئ
بهذا الأسلوب النبوي الكريم ، وما فيه من حلم ورفق ، وعطف وستر ، ونصح
وحكمة ، لأثروا بتعليمهم وأسلوبهم فيه ، تأثيراً يجعله يستجيب لتنفيذ أمر
الله وهدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..