كانت جذور النفاق عميقة في نفس عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ،
وبدايتها قبل هجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، يوم كانت المدينة تعيش
صراعا وقتالاً شرساً بين الأوس والخزرج ، وانتهى الصراع بينهما على اتفاق
بين الفريقين يقضي بنبذ الخلاف وتنصيب ابن سلول زعيماً على المدينة ، ثم
ماتت هذه الفكرة بدخول الإسلام إلى أرض المدينة ، واجتماع الناس حول راية
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فصارت نظرة ابن سلول للإسلام تقوم على أساس
أنه قد حرمه من الملك والسلطان ، وبذلك كانت مصالحه وأهواؤه الشخصية وراء
نفاقه ، وامتناعه عن الصدق في إسلامه ، ومن ثم الكيد للإسلام والمسلمين .
انطلق ابن سلول ينفث سمومه في صنع الافتراءات والخلافات ، وإثارة الفتن
للتفريق بين المسلمين للقضاء على دولة الإسلام ، ومن ذلك قولته الخبيثة
التي قالها عقب غزوة بني المصطلق (المريسيع) ـ والتي تعبر عن مدى حقده على
الإسلام والمسلمين ـ : " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " ،
ويعني بالأعز نفسه ، ويقصد بالأذل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن
معه من أصحابه .
عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: ( كنا في غزاة (بني المصطلق) فكسع (ضرب)
رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال
المهاجري : يا للمهاجرين ، فسمع ذاك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال
: ما بال دعوى جاهلية ؟ ، قالوا يا رسول الله : كسع رجل من المهاجرين رجلا
من الأنصار ، فقال دعوها فإنها منتنة ، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال :
فعلوها ؟ ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ،
فبلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم -، فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم -: دَعْه ، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ) رواه البخاري .
واستدعى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن أبي بن سلول هو
وأصحابه ـ المنافقين ـ ، فأنكروا ذلك ، وحلفوا بأنهم لم يقولوا شيئا ،
فأنزل الله سورة المنافقين ، وفيها تكذيب لهم ولأيْمانهم الكاذبة ، وذلك في
قول الله تعالى :{ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا
تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا
وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لا يَفْقَهُونَ . يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ
}(المنافقون8:7 ) .
وكان لعبد الله بن أبي بن سلول ولد مؤمن اسمه عبد الله ،
لما علم بالأحداث وبما قاله أبوه استأذن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
في قتل أبيه لما قاله ، فنهاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك ،
وأمره بحسن صحبته .
فلما وصل المسلمون مشارف المدينة ، تصدى عبد الله لأبيه
، وقال له : " قف والله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ بالدخول ، فإنه العزيز وأنت الذليل"، فأذن له رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ ، فظهر بذلك مَنِ العزيز ومَنِ الذليل ، فلا أذل لابن سلول من
أن يقف ولده أمامه ويمنعه من دخول المدينة حتى يأذن له رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ .
ولقد ضرب عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ـ رضي الله عنه ـ بهذا الموقف مثالا عمليا للإيمان في أوثق عراه ، وهو الولاء والبراء .
ومن خلال هذا الموقف مع قولة ابن سلول ظهرت لنا حكمة النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ ، فقد قابل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما قاله ابن سلول بالصبر ، وهو ـ
صلى الله عليه وسلم ـ أفضل النبيين ، لكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن
يغضب لنفسه أو ينتقم لها ، بل يغضب لله ـ عز وجل ـ ، فلو أمر النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ أو أذن لعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول بقتله لقتله ، لكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صبر وعفا ، ولما استأذنه عبد الله ـ رضي الله عنه ـ في أن يقتل أباه لما قاله ، قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا ، ولكن بر أباك، وأحسن صحبته ) رواه ابن حبان .
وفي ذلك أيضا تأكيد من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مراعاة البر
بالآباء وحسن صحبتهم في الدنيا وإن كانوا كافرين، عملا بقول الله تعالى : {
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ
سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }(لقمان:15)..
وكذلك ظهر في هذا الموقف حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في محافظته على
وحدة الصف الداخلية للمجتمع المسلم ، وعلى السمعة الطيبة للإسلام
والمسلمين ، وحتى لا يُشاع بين العرب أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ
يقتل أصحابه ، فينفض الناس من حوله ، وينفرون من دخول الإسلام ، ففرْق كبير
بين أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ، وبين أن يتحدث الناس عن حب
أصحاب محمد محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وفي ذلك يقول ابن تيمية : " إن النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة ، لئلا يكون
ذريعة إلى قول الناس أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقتل أصحابه ، لأن
هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ، وممن لم يدخل فيه " .
وهكذا كان رد فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قولة ابن سلول ـ مع
مرارتها وألمها ـ فيه من المعاني الكثير ، التي ينبغي أن يقف المسلمون معها
للاستفادة منها في واقعهم .