إنَّ الحمدَ للهِ ، نحمده ونستعينُ به ونستغفره ، ونعوذُ بالله مِن شرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا ، مَن يهـدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومَن يُضلِل فلا هادىَ له ، وأشهدُ أنْ لا إله إلاَّ اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُه ورسوله .
وبعـد ،،
فسَـلامُ اللهِ عليكُـم ورحمتُه وبركاتُـه ،،
سيكون هذا الموضوع مشتركاً ما بيني وبين الأخت الفاضلة
( حلم الأماني )
صاحبة الفكرة
فجزاها الله عنا وعنكم خير الجزاء
~ من روائع ( ابن عثيمين ) في ( شرح رياض الصالحين ) ~
فيها روائـعَ و دُررَ و فوائـدَ مِن كلامِ شيخنا ابن عُثيمين رحمه الله تعالى ..
وتتوالى الـدُّرر و الـروائــع .. ونعيشُ هُـنـا مع روائـع جديـدة ، لكنَّها هـذه المَرَّة لأحـد المُتقدِّمين ،، إنَّـه الإمام : ( ابنُ رَجَب الحنبلىّ ) رحمه اللهُ تعالى .... نعيشُ مع فوائـدَ و روائـعَ نستقيها مِن كتابه : ( جامِـع العلـوم والحِكَـم ) ..
والكتابُ كُلُّه فوائـد .. لكنِّي أتيتُ على بعضها ، ومَن أراد المزيـد ، فليرجِـع للكتاب .. وبالإمكان تحميله مُباشرةً مِن هُنا :
والقراءةُ في كُتب العُلماء - خاصةً المُتقدِّمين منهم - مُتعـة ، فمنها نُحَصِّل ما لا نستطيعُ تحصيلَه مِن غيرها .
فـ تابِعوا معي اخوتي - أخواتي - هـذه الـدُّرر والفوائِـد
،
يتبع مع الأخت حلم الأماني .........
...
~ [ فوائـد ] من [ جامــع العلـوم والحِكَـم ] ~
~◘ الحـديـثُ الأول ◘~
------
عن أمير المؤمنين أبي حفصٍ عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قال : سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول : (( إنما الأعمالُ بالنيات ، وإنما لِكُلِّ امرئٍ ما نوى ، فمَن كانت هجرتُه إلى اللهِ ورسولِه فهجرتُه إلى اللهِ ورسولِه ، ومَن كانت هجرتُه لدُنيا يُصيبها أو امرأةٍ يَنكحها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه )) رواه البخارىُّ ومُسلم .
قال عبد الرحمن بن مهدى : ‹‹ لو صنَّفتُ الأبوابَ لجعلتُ حديثَ عُمَر في الأعمال بالنيَّـة في كل باب ›› .. وعنه أنه قال : ‹‹ من أراد أن يُصنِّفَ كِتابًا ، فليبدأ بحديث (( الأعمال بالنيات )) ›› .
وهذا الحديثُ أحد الأحاديث التي يدور الدينُ عليها .. فرُوى عن الشافعي أنه قال : ‹‹ هذا الحديث ثُلث العلم ، ويدخل في سبعين بابًا من الفقه ›› .
وعن الإمام أحمد قال :‹‹ أصولُ الإسلام على ثلاثةِ أحاديث : حديث عمر (( الأعمالُ بالنيات )) ،، وحديث عائشة (( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ )) ،، وحديث النعمان بن بشير (( الحلالُ بَيِّن والحرامُ بَيِّن )) ›› .
وعن إسحاق بن راهَوَيْه قال : ‹‹ أربعةُ أحاديثٍ هي من أصول الدين : حديثُ عمر (( إنما الأعمالُ بالنيات )) ،، وحديثُ (( الحلالُ بَيِّن والحرامُ بَيِّن )) ،، وحديثُ (( إنَّ خلقَ أحدِكم يُجمَعُ في بطن أمِّه )) ،، وحديثُ (( مَن صَنَعَ في أمرنا شيئًا ليس منه فهو رد )) ›› .
ورَوى عثمانُ بن سعيد عن أبي عُبيدٍ قال :
‹‹ جَمَعَ النبىَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم جميعَ أمر الآخرة في كلمة (( مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رَدّ )) ،، وجَمَعَ أمرَ الدنيا كُلَّه في كلمة (( إنما الأعمالُ بالنيات )) يدخلان في كل باب ›› .
قال الإمامُ أحمد في رواية حنبل : ‹‹ أُحِبُّ لِكُلِّ مَن عَمِلَ عملاً مِن صلاةٍ أو صيامٍ أو صدقةٍ أو نوعٍ من أنواع البِرِّ أن تكون النية متقدمةً في ذلك قبل الفِعل ، قال النبىُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : (( الأعمالُ بالنيات )) ›› .
وعن يحيى ابن أبي كثير قال : ‹‹ تعلَّموا النية ، فإنها أبلغ من العمل ›› .
وعن زُبَيْـد اليامي قال : ‹‹ إنى لأُحِبُّ أن تكون لي نيةٌ في كُلِّ شيءٍ ، حتى في الطعام والشراب ›› .
وعن سُفيان الثورىِّ قال : ‹‹ ما عالجتُ شيئًا أشدَّ عَلَىَّ مِن نِيَّتي ، لأنها تتقلَّبُ عَلَىَّ ›› .
وعن مُطَرِّف بن عبد الله قال : ‹‹ صلاحُ القلب بصلاح العمل ، وصلاحُ العمل بصلاح النيَّة ›› .
وعن بعض السلف قال : ‹‹ مَن سَرَّه أن يَكْمُلَ له عملُه ، فليُحسن نيته ، فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يأجرُ العبدَ إذا حسن نيته ، حتى باللقمة ››.
وعن ابن المبارك قال : ‹‹ رُبَّ عملٍ صغيرٍ تُعَظِّمُه النية ورُبَّ عملٍ كبيرٍ تُصَغِّره النية ›› .
والنيَّـةُ في كلام العلماء تقعُ بمَعنيين : -
- أحدهما : بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض ؛ كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا ، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره .. أو تمييز العبادات من العادات ؛ كتمييز الغُسل من الجنابة من غسل التبرُّد والتنظُّف ، ونحو ذلك .... وهـذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم .
- والمعنى الثاني : بمعنى تمييز المقصود بالعمل ، وهل هو لله وحده لا شريك له ، أم غيره ، أم الله وغيره .... وهـذه النية هى التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه ، وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدِّمين .
والنيَّـةُ : هي قصد القلب ، ولا يجب التلفظ بما في القلب في شيءٍ من العبادات .
~ [ فوائـد ] من [ جامــع العلـوم والحِكَـم ] ~
وبهذا يُعلَمُ معنى ما رُوى عن الإمام أحمد أنَّ أصولَ الإسلام ثلاثةُ أحاديث : حديث (( الأعمال بالنيات )) ، وحديث (( مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رَدّ )) وحديث ، (( الحلالُ بَيِّن والحرامُ بَيِّن )) .. فإنَّ الدينَ كُلَّه يَرجعُ إلى فِعل المأمورات ، وترك المحظورات والتوقف عن الشبهات ،، وهذا كلُّه تضمَّنه حديثُ النعمان بن بشير .. وإنما يتم ذلك بأمرين :
- أحدهما : أن يكون العملُ في ظاهره على مُوافقة السُّنَّة وهذا هو الذي تضمَّنه حديثُ عائشة (( مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رَدّ )) .
- والثاني : أن يكون العملُ في باطنه يُقصَدُ به وجه اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، كما تضمَّنه حديثُ عمر (( الأعمالُ بالنيات )) .
وقال الفُضيلُ في قوله تعالى : (( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )) الملك/2 ، قال : أخلصه وأصوبه .. وقال : ‹‹ إنَّ العملَ إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل ، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل ، حتى يكون خالصًا صوابًا ›› ، قال : ‹‹ والخالِصُ إذا كان لله عَزَّ وَجَلَّ ، والصوابُ إذا كان على السُّنَّة ›› ..
وقد دَلَّ على هذا الذي قاله الفُضيل قولُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحَدًا )) الكهف/110 .
فأخبر النبىُّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - أنَّ هذه الهجرةَ تختلفُ باختلاف النيِّات و المَقاصِد بها ، فمَن هاجر إلى دار الإسلام حُبُّاً لله ورسوله ، ورغبةً في تعلُّم دين الإسلام وإظهار دينه ، حيث كان يعجز عنه في دار الشِّرك ، فهذا هو المهاجرُ إلى الله ورسوله حقا ، وكفاه شرفًا وفخرًا أنَّه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله .. ولهذا المعنى اقتصر في جواب الشرط على إعادته بلفظه ، لأنَّ حصولَ ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة .. ومَن كانت هجرتُه من دار الشِّرك إلى دار الإسلام ليطلب دنيا يُصيبها ، أو امرأةً يَنكحها في دار الإسلام ، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه من ذلك .. فالأول تاجر ، والثاني خاطب ، وليس واحدٌ منهما بمهاجر .
وفي قوله
( إلى ما هاجر إليه )) : تحقيرٌ لِمَا طلبه من أمر الدنيا ، واستهانةٌ به حيث لم يذكره بلفظه .. وأيضًا فالهجرةُ إلى الله ورسوله واحدةٌ فلا تعدُّدَ فيها ، فلذلك أعاد الجوابَ فيها بلفظ الشرط .. والهجرةُ لأمور الدنيا لا تنحصر ، فلذلك قال : (( فهجرتُه إلى ما هاجر إليه )) يعني كائنًا ما كان .
قال ابن مسعود : ‹‹ لا تعلَّموا العِلمَ لثلاث لتُماروا به السُّفهاء ، أو لتُجادِلوا به الفُقَهاء ، أو لتصرفوا به وجوهَ الناسِ إليكم ، وابتغوا بقولكم وفِعلكم ما عند الله ، فإنه يبقى ويَذهبُ ما سواه ›› .
~ [ فوائـد ] من [ جامــع العلـوم والحِكَـم ] ~
الحـديـثُ الثـانـي ◘~
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا قال : (( بينما نحنُ جلوسٌ عند رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بياض الثياب شديدُ سوادِ الشعر ، لا يُرَى عليه أثرُ السفر ، ولا يعرفه مِنَّا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : الإسلامُ أنْ تشهدَ أنْ لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتُقيمَ الصلاة ، وتُؤتىَ الزكاة ، وتصومَ رمضان ، وتَحُجَّ البيتَ إنْ استطعتَ إليه سبيلاً ، قال : صدقت ، فعجبنا له يسأله ويصدقه ، قال : فأخبرني عن الإيمان ، قال : أنْ تُؤمنَ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال : صدقت ، قال : فأخبرني عن الإحسان ، قال : أنْ تعبدَ اللهَ كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، قال : فأخبرني عن الساعة ، قال : ما المسئولُ عنها بأعلمَ مِن السائل ، قال : فأخبرني عن أماراتها ، قال : أنْ تلدَ الأمَةُ رَبَّتَها ، وأن ترى الحُفاةَ العُراةَ العالةَ رِعاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البنيان ، ثم انطلق فلبث مليًا ، ثم قال : يا عمر ، أتدري من السائل ؟ قلتُ : اللهُ ورسولُه أعلم ، قال : هذا جبريل أتاكم يُعلِّمكم دينكم )) رواه مسلم .
إذا أُفرِدَ كُلٌّ مِن الإسلام والإيمان بالذكر ، فلا فرق بينهما حينئذٍ ،، وإنْ قُرِنَ بين الاسمين كان بينهما فرق ..
والتحقيقُ في الفرق بينهما أنَّ : الإيمان هو تصديقُ القلب وإقراره ومعرفته ،، و الإسلام هو استسلامُ العبد لله وخضوعه وانقياده له ، وذلك يكون بالعمل ، وهو الدين ، كما سَمَّي اللهُ تعالى في كتابه "الإسلامَ" "دينـًا" .. وفي حديث جبريل سَمَّي النبىُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - الإسلامَ والإيمانَ والإحسانَ دينـًا ، وهذا أيضًا مما يدل على أنَّ أحدَ الاسمين إذا أُفرِدَ دخل فيه الآخر ، وإنما يُفَرَّقُ بينهما حيث قُرِنَ أحدُ الاسمين بالآخر ... فيكونُ حينئذٍ المُراد بالإيمان : جِنس تصديق القلب وبالإسلام : جِنس العمل .
قال المُحققون من العلماء : ‹‹ كُلُّ مُؤمنٍ مُسلم ›› فإنَّ مَن حَقَّقَ الإيمانَ ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام ، كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : (( ألا وإنَّ في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كُلُّه ، وإذا فسدت فسد الجسد كُلُّه ، ألا وهي القلب )) .. فلا يتحقق القلبُ بالإيمان إلاَّ وتنبعث الجوارحُ في أعمال الإسلام .. و ‹‹ ليس كُلُّ مُسلمٍ مُؤمنًا ››.. فإنَّه قد يكونُ الإيمانُ ضعيفًا ، فلا يتحقق القلب به تحقيقًا تامَّاً مع عمل جوارحه بأعمال الإسلام ، فيكونُ مُسلمًا ، وليس بمُؤمنٍ الإيمانَ التام كما قال تعالى : (( قَالتِ الأعرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُل الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُم )) الحجرات/14 .
يدخلُ في أعمال الإسلام : إخلاصُ الدين لله تعالى ، والنُّصح له ولعباده ، وسلامةُ القلب لهم مِن الغش والحسد والحقد وتوابع ذلك من أنواع الأذى .. ويدخل في مسمى الإيمان : وَجَلُ القلوب مِن ذكر الله ، وخشوعها عند سماع ذكره وكتابه ، وزيادة الإيمان بذلك ، وتحقيق التوكل على الله ، وخوف الله سرًا وعلانية ، والرضا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - رسولاً ، واختيار تلف النفوس بأعظم أنواع الآلام على الكفر ، واستشعار قرب الله من العبد ، ودوام استحضاره ، وإيثار محبة الله ورسوله على محبة ما سواهما ، والمحبة في الله والبغض في الله ، والعطاء له والمنع له ، وأن يكون جميع الحركات والسكنات له ، وسماحة النفوس بالطاعة المالية والبدنية ، والاستبشار بعمل الحسنات والفرح بها ، والمُساءة بعمل السيئات والحزن عليها ، وإيثار المؤمنين لرسول الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - على أنفسهم وأموالهم ، وكثرة الحياء ، وحُسن الخلق ، ومحبة ما يحبه لنفسه لإخوانه المؤمنين ، ومُواساة المؤمنين ، خصوصًا الجيران ، ومعاضدة المؤمنين ومناصرتهم ، والحزن بما يحزنهم .
قال بعض العارفين : ‹‹ اتقِ اللهَ أنْ يكونَ أهونَ الناظرين إليك ›› .
وقال بعضهم : ‹‹ خَف الله على قدر قدرته عليك ، واستحِ منه على قدر قربه منك ›› .
وقال مسلم بن يسار : ‹‹ ما تلذذ المتلذذون بمِثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل ›› .
وعن إبراهيم بن أدهم قال : ‹‹ أعلى الدرجاتِ أن تنقطع إلى ربِّك ، وتستأنس إليه بقلبك وعقلك وجميع جوارحك ، حتى لا ترجوا إلا ربَّك ، ولا تخاف إلا ذنبك ، وترسخ محبته في قلبك حتى لا تُؤْثِرَ عليها شيئًا ، فإذا كنتَ كذلك لم تُبالِ في بَرٍّ كنت أو في بحرٍ أو في سهلٍ أو في جبل ، وكان شوقك إلى لقاء الحبيب شوقَ الظمآن إلى الماءِ البارد ، وشوقَ الجائع إلى الطعام الطيب ، ويكون ذِكرُ الله عندك أحلى من العسل ، وأحلى من الماء العذب عند العطشان في اليوم الصائف ›› .
~ [ فوائـد ] من [ جامــع العلـوم والحِكَـم ] ~
~◘ الحـديـثُ الثالـث ◘~
عن أبي عبد الرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قال : (( سمعتُ رسولَ الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - يقول : بُنِىَ الإسلامُ على خمس : شهادة أنْ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحَجِّ البيت ، وصوم رمضان )) رواه البخارىُّ ومسلم .
في حديث معاذ بن جبل : (( إنَّ رأسَ الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سِنامه الجهاد )) صحيح .. وذروة سِنامه : أعلى شيء فيه ، ولكنه ليس من دعائمه وأركانه التي بُنِىَ عليها ، وذلك لوجهين :
- أحدهما : أنَّ الجهادَ فرضُ كِفايةٍ عند جمهور العلماء ليس بفرض عين ، بخلاف هذه الأركان .
- والثاني : أنَّ الجهادَ لا يستمر فِعلُه إلى آخر الدهر ، بل إذا نزل عيسى عليه السلام ولم يبقَ حينئذٍ مِلَّةٌ غير مِلَّة الإسلام ، فحينئذٍ تضعُ الحربُ أوزارها ، ويُستغنَي عن الجهاد ، بخلافِ هذه الأركان فإنها واجبة على المؤمنين إلى أن يأتي أمرُ الله وهم على ذلك ، والله أعلم .
~◘ الحديثُ الرابـع ◘~
عن أبي عبد الرحمن عبدالله بن مسعودٍ رضى الله عنه قال : ((
حدثنا رسولُ الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - وهو الصادقُ المصدوق : إنَّ أحدكم يُجْمَعُ خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ، ثم يكونُ علقةً مِثلَ ذلك ، ثم يكونُ مُضغةً مِثلَ ذلك ، ثم يُرسَلُ إليه المَلَكُ فيَنفخُ فيه الروح ، ويُؤمَرُ بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقىٌّ أو سعيد ، فو اللهِ الذي لا إله غيرُه إنَّ أحدكم ليعملُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكونُ بينه وبينها ذراع فيَسبقُ عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكونُ بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها )) رواه البخارىُّ ومسلم .
وقد قيل : إنَّ قوله في آخر الحديث (( فو اللهِ الذي لا إله غيره ، إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة )) إلى آخر الحديث مُدرَج مِن كلام ابن مسعود ، كذلك رواه سَلَمَةُ بن كهيل عن زيد بن وهب عن ابن مسعود من قوله ، وقد رُوِىَ هذا المعنى عن النبىِّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - من وجوهٍ مُتعددة .
قال عبد العزيز بن أبي رَوَّاد :
‹‹ حضرتُ رجلاً عند الموت يُلَقَّنُ "لا إله إلا الله" ، فقال في آخر ما قال : هو كافرٌ بما تقول ، ومات على ذلك ›› .. قال : ‹‹ فسألتُ عنه ، فإذا هو مُدمِنُ خمر ›› .
وكان عبد العزيز يقول : ‹‹ اتقوا الذنوب ، فإنها هي التي أوقعته ››.
وفي الجملة : فالخواتيمُ مِيراثُ السوابق ، كُلُّ ذلك سبق في الكتاب السابق ، ومِن هُنا كان يشتدُ خوفُ السَّلَفِ مِن سُوءِ الخواتيم ، ومنهم مَن كان يقلقُ مِن ذِكر السوابق .. وقد قيل : إنَّ قلوبَ الأبرار مُعلَّقةٌ بالخواتيم ، يقولون : بماذا يُختَمُ لنا ؟ وقلوبَ المُقرَّبين مُعلَّقةٌ بالسوابق ، يقولون : ماذا سبق لنا ؟ وبكى بعضُ الصحابةِ عند موته ، فسُئِلَ عن ذلك فقال : سمعتُ رسولَ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول : (( إنَّ اللهَ تعالى قبضَ خلقه قبضتين ، فقال : هؤلاء في الجنة ، وهؤلاء في النار )) ، ولا أدري في أىّ القبضتين كنتُ ؟ صحيح : مُسند أحمد ، الصحيحة .
قال بعضُ السلف : ‹‹ ما أبكى العيونَ ما أبكاها الكتابُ السابق ›› .
وقال سفيانُ لبعض الصالحين : ‹‹ هل أبكاك قط علمُ الله فيك ؟ فقال له ذلك الرجل : تركني لا أفرحُ أبدًا ›› .
وكان سفيان يشتد قلقُه من السوابق والخواتم ، فكان يبكي ويقول : ‹‹ أخافُ أنْ أكونَ في أمِّ الكتاب شقيًا ›› ، ويبكي ويقول : ‹‹ أخافُ أنْ أُسلَبَ الإيمان عند الموت ›› .
وكان مالِكُ بن دينار يقوم طول ليله قابضًا على لحيته ويقول : ‹‹ يا ربِّ قـد علمتَ ساكنَ الجنةِ مِن ساكنِ النار ، ففي أىّ الدارين منزلُ مالِك ؟ ›› .
وقال حاتم الأصم : ‹‹ مَن خلا قلبُه مِن ذِكر أربعةِ أخطار فهو مُغتَرٌّ فلا يأمنُ الشقاء : - الأول : خطر يوم الميثاق حين قال : هؤلاء في الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ولا أبالي ، فلا يعلمُ في أىّ الفريقين كان .. والثاني : حين خُلِقَ في ظلماتٍ ثلاث فنادى الملك بالسعادة والشقاوة ، ولا يدري أمِن الأشقياء هو أم مِن السُّعَداء ؟ .. والثالث : ذِكر هَول المَطلع ، ولا يدري أيُبشَّرُ برضا الله أو بسَخَطِهِ ؟ .. والرابع : يوم يَصدرُ الناسُ أشتاتًا ، ولا يدري أىّ الطريقين يُسلك به ›› .
وقال سهل التسترى : ‹‹ المُريدُ يخافُ أن يُبتلَى بالمعاصي ، والعارِفُ يخافُ أن يُبتلَى بالكفر ›› .
ومِن هُنا كان الصحابةُ ومَن بعدهم مِن السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاقَ ، ويشتد قلقهم وجزعهم منه ، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاقَ الأصغر ، ويخاف أن يَغلب ذلك عليه عند الخاتمة ، فيُخرجه إلى النفاق الأكبر ، كما تَقَدَّمَ أنَّ دسائسَ السوء الخلفية تُوجب سوء الخاتمة ،، وقد كان النبىُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - يُكثِرُ أن يقولَ في دعائه
( يا مُقلِّبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك )) فقيل له : يا نبىَّ الله ، آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ فقال : (( نعم ، إنَّ القلوبَ بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يُقلِّبُها كيف شاء )) خرجه الإمام أحمد والترمذىّ من حديث أنس .
~◘ الحديثُ الخامِس ◘~
عن أم المؤمنين أم عبدالله عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : (( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ )) رواه البخاري ومسلم ،، وفي روايةٍ لمسلم : (( مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدّ )) .
◘---
---•---
---•---
---•---
---◘
◘---
---•---
---•---
---•---
---◘
وهذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ مِن أصول الإسلام ، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها ، كما أنَّ حديث
(( الأعمال بالنيات )) ميزانٌ للأعمال في باطنها .. فكما أنَّ كُلَّ عمل لا يُرادُ به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب ، فكذلك كُلُّ عملٍ لا يكون عليه أمرُ الله ورسوله فهو مردود على عامله .. وكُلُّ مَن أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شئ .
فالمعنى إذًا : أنَّ مَن كان عمله خارجًا عن الشرع ليس متقيدًا بالشرع فهو مردود .. وقوله (( ليس عليه أمرنا )) : إشارةٌ إلى أنَّ أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة ، فتكون أحكامُ الشريعة حاكمةً عليها بأمرها ونهيها ، فمَن كان عمله جاريًا تحت أحكام الشريعة مُوافقًا لها فهو مقبول ، ومَن كان خارجًا عن ذلك فهو مردود .
والأعمالُ قِسمان : عِبادات و مُعاملات :
فأما ([ العبادات ]) : فما كان منها خارجًا عن حُكم الله ورسوله بالكلية فهو مردودٌ على عامله ، وعاملُه يدخل تحت قوله تعالى
( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ )) الشورى/21 ،، فمَن تقرَّبَ إلى الله بعملٍ لم يجعله اللهُ ورسولُه قُربةً إلى الله فعملُه باطلٌ مردودٌ عليه ، وهو شبيهٌ بحال الذين كانت صلاتُهم عند البيت مُكاءً وتصدية ، وهذا كمَن تقرَّبَ إلى الله تعالى بسماع الملاهي أو بالرقص أو بكشف الرأس في غير الإحرام وما أشبه ذلك من المحدَثات التي لم يَشرع اللهُ ورسولُه التقرُّبَ بها بالكلية .. وليس ما كان قربةً في عبادةٍ يكون قربةً في غيرها مطلقًا ، فقد رأى النبىُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - رجلاً قائمًا في الشمس فسأل عنه ، فقيل : إنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل وأن يصوم ، فأمره النبىُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - أن يقعد ويستظل وأن يُتِمَّ صومَه . رواه البخارىُّ ،، فلم يجعل قيامَه وبروزَه في الشمس قُربةً يوفي بنذرهما .. وقد رُوِىَ أنَّ ذلك كان في يوم جمعةٍ عند سماع خطبة النبىِّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - وهو على المنبر ، فنذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ما دام النبىُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - يخطب ، إعظامًا لسماع خُطبة النبىِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، ولم يجعل النبىُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - ذلك قُربةً تُوفي بنذره ، مع أنَّ القيامَ عِبادةٌ في مواضع أُخَر : كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة ، والبُروز للشمس قُربةٌ للمُحْرِم ، فدلَّ على أنه ليس كل ما كان قُربةً في موطن يكون قُربةً في كل المواطن ، وإنما يتبع في ذلك كله ما وردت به الشريعةُ في مواضعها ..
وكذلك مَن تقرَّبَ بعبادةٍ نُهِىَ عنها بخصوصها كمَن صام يومَ العيد ، أو صلَّى وقت النهي ..
وأما مَن عمل عملاً أصلُه مشروعٌ وقُربة ، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع ، أو أخلَّ فيه بمشروع فهذا أيضا مخالفٌ للشريعة بقدر إخلاله بما أخلَّ به ، أو إدخاله ما أدخل فيه ..وهل يكون عمله من أصله مردودًا عليه أم لا ؟ فهذا لا يطلق القول فيه برَدٍّ ولا قبول ، بل يُنظر فيه : فإنْ كان ما أخلَّ به مِن أجزاء العمل أو شروطه مُوجبًا لبُطلانه في الشريعة ؛ كمَن أخلَّ بالطهارة للصلاة مع القدرة عليها ، أو كمَن أخلَّ بالركوع أو بالسجود أو بالطمأنينة فيهما ، فهذا عمله مردودٌ عليه ، وعليه إعادته إن كان فرضًا ،، وإن كان ما أخلَّ به لا يُوجب بُطلان العمل ؛ كمَن أخلَّ بالجماعة للصلاة المكتوبة عند مَن يُوجبها ولا يجعلها شرطًا ، فهذا لا يُقال إنَّ عمله مردودٌ مِن أصله ، بل هو ناقص .. وإنْ كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع ، فزيادته مردودةٌ عليه ، بمعنى أنها لا تكون قربةً ولا يُثاب عليها ، ولكنْ تارةً يَبطل بها العملُ مِن أصله فيكونُ مردودًا : كمَن زاد في صلاته ركعةً عمدًا مثلاً ،، وتارة لا يبطله ولا يَردّه مِن أصله : كمَن توضأ أربعًا أربعًا ، أو صام الليلَ مع النهار وواصل في صيامه ، وقد يُبدِّل بعضَ ما يُؤمر به في العبادة بما هو مَنهِىٌّ عنه : كمَن ستر عورته في الصلاة بثوبٍ مُحَرَّم ، أو تؤضأ للصلاة بماءٍ مغصوب ، أو صلَّى في بُقعة غصب ، فهذا قد اختلف العلماءُ فيه : هل عملُه مردودٌ مِن أصله ، أو أنه غير مردود ، وتبرأ به الذِّمَةُ مِن عُهدة الواجب ؟ وأكثرُ الفقهاء على أنه ليس بمردودٍ من أصله .
وقريبٌ مِن ذلك : الذبح بآلةٍ مُحَرَّمَة ، أو ذبح مَن لا يجوز له الذبح ؛ كالسارق ،، فأكثرُ العلماء قالوا : إنه تُباحُ الذبيحة بذلك، ومنهم من قال : هي مُحَرَّمَة .. وكذا الخلاف في ذبح المُحْرِم للصيد ، لكنَّ القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر لأنه مَنهِىٌّ عنه بعينه ..
ولهذا فرَّق مَن فرَّق مِن العلماء بين أن يكون النهىُ لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها وبين أن لا يكون مُختصًا بها فلا يبطلها ؛ فالصلاة بالنجاسة ، أو بغير طهارة ، أو بغير ستارة ، أو إلى غير القبلة يبطلها ، لاختصاص النهى بالصلاة ، بخلاف الصلاة في الغصب ، ويشهد لهذا أنَّ الصيامَ لا يبطله إلا ارتكاب ما نُهِىَ عنه فيه بخصوصه ، وهو جِنس الأكل والشُّرب والجماع ، بخلاف ما نُهِىَ عنه الصائم ، لا بخصوص الصيام كالكذب والغيبة عند الجمهور .. وكذلك الحج لا يبطله إلا ما نُهِىَ عنه في الإحرام وهو الجِماع ، ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام مِن المُحَرَّمات كالقتل والسرقة وشرب الخمر .. وكذلك الاعتكاف إنما يبطل بما نُهِىَ عنه فيه بخصوصه وهو الجِماع ، وإنما يبطل بالسُّكْر عندنا وعند الأكثرين ، لنهى السكران عن قُربان المسجد ودخوله على أحد التأويلين في قوله تعالى (( لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ))النساء/43 ، أنَّ المُراد مواضع الصلاة فصار كالحائض ، ولا يبطل الاعتكاف بغيره من ارتكاب الكبائر عندنا وعند كثيرٍ مِن العلماء ، وإنْ خالف في ذلك طائفةٌ مِن السلف منهم عطاء والزهري والثورى ومالك وحكي عن غيرهم أيضًا ..
وأمَّا ([ المعاملات ]) : كالعقود والفسوخ ونحوهما ، فما كان منها تغييرًا للأوضاع الشرعية ؛ كجعل حد الزنا عقوبةً مالية ، وما أشبه ذلك ، فإنه مردودٌ مِن أصله ، لا ينتقل به الملك لأنَّ هذا غير معهود في أحكام الإسلام ، ويدل على ذلك أن النبىَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال للذي سأله : إنَّ ابني كان عسيفًا على فلان ، فزنى بامرأته ، فافتديتُ منه بمائة شاةٍ وخادم ، فقال النبىُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : (( المائةُ شاةٍ والخادم رَدٌّ عليك ، وعلى ابنك جَلدُ مائةٍ وتغريبُ عام )) رواه البخارىُّ ومسلم .. وما كان منها عقدًا منهيًا عنه في الشرع ؛ إمَّا لكون المعقود عليه ليس محلاً للعقد ، أو لفوات شرطٍ فيه ، أو لظلمٍ يحصلُ به للمعقود معه أو عليه ، أو لكون العقد يشغل عن ذكر الله الواجب عند تضايق وقته ، أو غير ذلك ، فهذا العقد هل هو مردودٌ بالكلية لا ينتقل به الملك أم لا ؟ هذا الموضع قد اضطرب الناسُ فيه اضطرابًا كثيرًا ، وذلك أنه ورد في بعض الصور أنه مردودٌ لا يُفيد الملك ، وفي بعضها أنه يُفيده ، فحصل الاضطرابُ فيه بسبب ذلك ،، والأقربُ - إن شاء الله تعالى - أنه إن كان النهىُ عنه لِحَقِّ الله عز وجل لا يُفيد الملك بالكلية ، ونعني أنه بكون الحق لله : أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه ،، وإن كان النهىُ عنه لِحَقِّ آدمىٍّ مُعَيَّن ، بحيث يسقط برضاه به ، فإنه يقف على رضاه به ، فإن رَضِىَ لزم العقدُ واستمر الملك ، وإنْ لم يرضَ به فله الفسخ ، فإنْ كان الذي يلحقه الضُّر لا يُعتبرُ رضاه بالكلية كالزوجة والعبد في الطلاق والعِتاق ، فلا عِبرةَ برضاه ولا بسخطه ، وإنْ كان النهىُ رفقًا بالمنهىِّ خاصة لِمَا يلحقه مِن المشقة ، فخالف وارتكب المشقة لم يبطل بذلك عملُه .
~◘ الحديثُ السادِس ◘~
عن أبي عبدالله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : (( سمعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول : إنَّ الحلالَ بَيِّن ، وإنَّ الحرامَ بَيِّن ، وبينهما أمورٌ مُشتبهاتٌ لا يعلمهن كثيرٌ مِن الناس ، فمَن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه ، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحِمَى يُوشِكُ أنْ يرتع فيه ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى ، ألا وإنَّ حِمَى الله محارمُه ، وإنَّ في الجسد مُضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب )) رواه البخاري ومسلم .
فقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم :
(( الحلالُ بَيِّن والحرامُ بَيِّن وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ مِن الناس )) معناه : أنَّ الحلالَ المَحض بَيِّنٌ لا اشتباه فيه ، وكذلك الحرام المحض ، ولكنْ بين الأمرين أمورٌ تشتبه على كثيرٍ من الناس : هل هى مِن الحلال أم من الحرام ؟ وأمَّا الراسخون في العلم فلا يشتبه عليهم ذلك ، ويعلمون مِن أىّ القسمين هى .
فأمَّا الحلالُ المَحض : فمِثل أكل الطيبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام ، وشرب الأشربة الطيبة ، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكِتَّان أو الصوف أو الشعر ، وكالنكاح ، والتسرِّي ، وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقدٍ صحيحٍ كالبيع ، أو بميراثٍ ، أو هبة ، أو غنيمة ..
و الحرام المحض : مِثل أكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وشرب الخمر ، ونكاح المحارم ، ولباس الحرير للرجال ، ومثل الأكساب المُحَرَّمة كالربا ، والميسر ، وثمن ما لا يحل بيعه ، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس ، أو نحو ذلك ..
وأمَّا المشتبه : فمِثل بعض ما اختُلِفَ في حِلِّه أو تحريمه ، إمَّا من الأعيان كالخيل والبغال والحمير والضَّب ، وشُرب ما اختُلِفَ في تحريمه من الأنبذة التي يُسكِرُ كثيرها ، ولبس ما اختُلِفََ في إباحة لبسه من جلود السِّباع ونحوها ، وإمَّا من المكاسب المختلف فيها كمسائل العينة والتورق ونحو ذلك .. وبنحو هذا المعنى فسَّر المُشتبهات أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة .
لا صلاح للعالم العلوىّ والسفلىّ معًا حتى تكون حركاتُ أهلها كلها لله ، وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته ، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله ، وإن كانت حركة القلب وإراداته لغير الله تعالى فسد وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب .
قال أبو يعقوب النهرجوري : ‹‹ كُلُّ مَن ادَّعى محبة الله عز وجل ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطل ›› .
وقال يحيى بن معاذ : ‹‹ ليس بصادقٍ مَن ادَّعى محبةَ الله ولم يحفظ حدوده ›› .
وعن بعض السلف قال : ‹‹ قرأتُ في بعض الكتب السالفة : مَن أحبَّ الله لم يكن عنده شيءٌ آثرَ مِن هواه ، ومَن أحبَّ الدنيا لم يكن عنده شيءٌ آثرَ من هوى نفسه ›› .
قال الحسن : ‹‹ ما نظرتُ ببصري ، ولا نطقتُ بلساني ، ولا بطشتُ بيدي ، ولا نهضتُ على قدمي حتى أنظرَ : على طاعةٍ أو على معصية ؟ فإنْ كانت طاعة تقدمتُ ، وإنْ كانت معصية تأخرت ›› .
وقال محمد بن الفضل البلخي : ‹‹ ما خطوتُ منذ أربعين سنةً خُطوةً لغير الله عز وجل ›› .
~ [ فوائـد ] من [ جامــع العلـوم والحِكَـم ] ~
~◘ الحديثُ السابـع ◘~
عن أبي رقية تميم بن أوسٍ الدارىّ رضى الله تعالى عنه أنَّ النبىَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال : (( الدينُ النصيحة ، قلنا : لمن ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم )) رواه مسلم.
قال الخطَّابى : ‹‹ النصيحةُ كلمةٌ يُعبَّرُ بها عن جملةٍ هي إرادة الخير للمنصوح له ، قال : وأصلُ النُّصح في اللغة الخلوص ، يُقال : نصحت العسل ، إذا خلَّصته من الشمع . فمعنى "النصيحة لله سبحانه" : صِحة الاعتقاد في وحدانيته ، وإخلاص النية في عبادته .. و "النصيحة لكتابه" : الإيمان به ، والعمل بما فيه .. و "النصيحة لرسوله" : التصديق بنبوته ، وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهي عنه .. و "النصيحة لعامة المسلمين" : إرشادهم إلى مصالحهم ›› .. انتهي .
وقد حكى الإمام أبو عبدالله محمد بن نصر المَرْوَزِىّ في كتاب "تعظيم قدر الصلاة" عن بعض أهل العلم أنه فسر هذا الحديث بما لا مزيد على حُسنه . ونحن نحكيه هاهنا بلفظه إن شاء الله تعالى ، قال محمد بن نصر : ‹‹ قال بعض أهل العلم : جِماعُ تفسير النصيحة هو عناية القلب للمنصوح له كائنًا مَن كان ، وهي على وجهين : أحدهما فرض والآخر نافلة .. فالنصيحة المفترضة لله : هى شِدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترض ومُجانبة ما حرَّم ،، وأما النصيحة التي هي نافلة : فهي إيثار محبته على محبة نفسه ، وذلك أنْ يَعرِضَ أمران أحدهما لنفسه والآخر لرَبِّه ، فيبدأ بما كان لرَبِّه ويؤخر ما كان لنفسه ..... ›› .
وقال أبو عمرو بن الصلاح : ‹‹ النصيحةُ كلمةٌ جامعةٌ تتضمن قيامَ الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلاً .
فالنصيحةُ لله تعالى : توحيده ووصفه بصفات الكمال والجلال ، وتنزيهه عَمَّا يضادها ويخالفها ، وتجنب معاصيه ، والقيام بطاعته ومَحابه بوصف الإخلاص ، والحب فيه والبغض فيه ، وجهاد مَن كفر به تعالى وما ضاهى ذلك ، والدعاء إلى ذلك والحث عليه .
والنصيحة لكتابه : الإيمانُ به وتعظيمه وتنزيهه ، وتلاوته حق تلاوته ، والوقوف مع أوامره ونواهيه ، وتفهم علومه وأمثاله ، وتدبر آياته ، والدعاء إليه وذَبُّ تحريف الغالين وطعن الملحدين عنه .
والنصيحة لرسوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : قريبٌ مِن ذلك ، الإيمانُ به وبما جاء به ، وتوقيره وتبجيله ، والتمسك بطاعته ، وإحياء سُنته ، واستثارة علومها ونشرها ، ومُعاداة مَن عاداه وعاداها ، ومُوالاة من والاه ووالاها ، والتخلق بأخلاقه ، والتأدب بآدابه ومحبة آله وصحابته ونحو ذلك .
والنصيحة لأئمة المسلمين : معاونتهم على الحق ، وطاعتهم فيه ، وتذكيرهم به ، وتنبيههم في رِفقٍ ولُطف ، ومُجانبة الوثوب عليهم ، والدعاء لهم بالتوفيق ، وحَثُّ الأغيار على ذلك .
والنصيحة لعامة المسلمين : إرشادهم إلى مصالحهم ، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم ، وستر عوراتهم ، وسد خلاتهم ، ونصرتهم على أعدائهم ، والذب عنهم ، ومُجانبة الغش والحسد لهم ، وأن يُحِبَّ لهم ما يُحِبُّ لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لنفسه ، وما شابه ذلك ›› .. انتهى ما ذكره .
~◘ الحديثُ التاسـع ◘~
عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخرٍ رضى الله عنه قال : ((
سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقول : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين مِن قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )) رواه البخاري ومسلم .
قال إسحاق بن عيسي : ‹‹ كان مالِك يقول : المِراءُ والجِدالُ في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل ›› .
وقال ابنُ وَهْب : ‹‹ سمعتُ مالكًا يقول : المِراءُ في العلم يُقسِّي القلب ويُورِثُ الضغن ›› .
وقال أحمد بن شبويه : ‹‹ مَن أراد علمَ القبر فعليه بالآثار ، ومَن أراد علمَ الخبز فعليه بالرأي ›› .
وقال الحسن : ‹‹ ما عُبِّدَ العابدون بشيءٍ أفضل مِن ترك ما نهاهم الله عنه ›› .
وقال عمر بن عبدالعزيز : ‹‹ ليست التقوى قيام الليل وصيام النهار ، والتخليط فيما بين ذلك ، ولكن التقوى أداء ما افترض الله ، وترك ما حَرَّمَ الله ، فإنْ كان مع ذلك عملٌ فهو خيرٌ إلى خير ›› أو كما قال .
وفي قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم )) دليلٌ على أنَّ مَن عجِز عن فِعل المأمور به كله ، وقدر على بعضه ، فإنه يأتي بما أمكنه منه ،، وهذا مُطَّرِدٌ في مسائل :
- منها الطهارة :
فإذا قدر على بعضها ، وعجز عن الباقي : إمَّا لعدم الماء ، أو لمرضٍ في بعض أعضائه دون بعض ، فإنه يأتي مِن ذلك بما قدر عليه ، ويتيمم للباقي ، وسواءٌ في ذلك الوضوء والغسل على المشهور .
- ومنها الصلاة : فمن عجِز عن فِعل الفريضة قائمًا صلَّى قاعدًا ، فإنْ عجِز صلَّى مُضطجعًا ، وفيصحيح البخاري عن عمران بن حصين رضى الله عنه أن النبىَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال : (( صلِّ قائمًا ، فإنْ لم تستطع فقاعدًا ، فإنْ لم تستطع فعلى جنب )) ، ولو عجِز عن ذلك كله أومأ بطرفه وصلَّى بنيته ، ولم تسقط عنه الصلاة على المشهور .
- ومنها زكاة الفطر : فإذا قدر على إخراج بعض صاع لزمه ذلك على الصحيح .
- فأمَّا من قدر على صيام بعض النهار دون تكملته فلا يلزمه ذلك بغير خلاف ، لأنَّ صيامَ بعض اليوم ليس بقُربةٍ في نفسه .
- وكذلك لو قدر على عِتق بعض رقبة في الكفَّارة
لم يلزمه لأن تبعيض العِتق غير محبوبٍ للشارع بل يُؤمَرُ بتكميله بكل طريق .
- وأمَّا من فاته الوقوف بعرفة في الحَجِّ :
فهل يأتي بما بقى منه مِن المبيت بمزدلفة ورمى الجِمار أم لا ؟ بل يقتصرُ على الطواف والسعى ويتحلل بعمرة ؟ على روايتين عن أحمد ، أشهرهما : أنَّه يقتصر على الطواف والسعي ، لأنَّ المبيتَ والرمى مِن لواحق الوقوف بعرفة وتوابعه ، وإنما أمر اللهُ تعالى بذكره عند المشعر الحرام ، وبذكره في الأيام المعدودات لِمَن أفاض مِن عرفات ، فلا يُؤمَرُ به مَن لا يقفُ بعرفة كما لا يُؤمرُ به المعتمر .